فصل: فصل: في تزيين الميت بالحَلْق، والقَلْم، وما يتعلق بذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في تزيين الميت بالحَلْق، والقَلْم، وما يتعلق بذلك:

652- فنقول: في قَلْم أظفار الميت وحلق الشعور التي كان يؤمر ندباً بإزالتها من البدن، كشعر الإبط والعانة قولان:
أحدهما: أنه يترك؛ فإنه ثبت لها حكم الموت، وهي من جملته، فتدفن عليه، وقد يكون في تعاطي بعض هذه الأمور، ما يناقض موجب التعظيم والاحترام.
والقول الثاني- أنها تُزال منه كما يُزيلها الحي من نفسه.
والشعر الذي كان يبقيه على نفسه في حياته تزيّناً بها كاللحية وغيرها، فلا شك أنها تبقى عليه، ومن هذا القسم لِمّتُه إن كان ذا لِمة، وهي بمثابة ذوائب المرأة.
فأما الشعر الذي كان يأخذه زينةً، لا أدباً شرعياً، كشعر الرأس إذا لم يكن ذا لِمة، فقد اختلف فيه الأئمة على طريقين: فمنهم من خرجه على القولين في القَلْم وحلق الشعور الباطنة، ومنهم من قطع بأن هذا الجنس لا يحلق؛ فإن حلقه زينة، ولا زبنة بعد الموت.
فصل:
1653- من مات مُحْرِماً يجب حتماً إدامةُ شعار الإحرام في بدنه، فلا يجوز أن يُقرَّب طيباَّ، ولا يخمّرَ رأسُه، إن كان رجلاً، ووجهها، إن كانت امرأة.
ولو ماتت المعتدّة التي كنا نأمرها بالإحداد، واجتناب الطيب في عِدتها، فهل نُقرِّبها طيباً؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنا لا نقربها طيباً، كما لا نقرب المحرم؛ استدامةً لحكم الحياة.
والثاني: أنا نقربها طيباً بعد موتها؛ فإنا كنّا ننهاها عن استعمال الطيب، حتى لا تتزين للرجال، وتتحزَّن على زوجها المتوفى، وهذان المعنيان لا أثر لهما بعد الموت.
فصل:
1654- الكفار الحربيون لا حرمة لهم، إذا قتلوا أو ماتوا، تركناهم بالقاع، طعمةً للسباع، فإن واريناهم، فسببه أن يُغيَّبوا عن أبصار المسلمين، كما تُغيب الجيف.
1655- فأما إذا مات فينا ذمِّي، على حرمة الذمّة، فإن لم يكن له ولي من أهل دينه، فلا يجب على المسلمين غُسله، وتحرم الصلاة عليه، قال الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ولو غسَّله مسلم لمكان ذمته وحرمته، فلا بأس.
وكان شيخي يقول: تكفينه ودفنه من فروض الكفايات على المسلمين، وليس ذلك كغسله، حتى يجوز تركه، أو كالصلاة حتى يحرم.
وفي كلام الصيدلاني ما يدل على أنه لا يجب تكفين الكافر ودفنه، كما لا يجب غُسُله، فإنا إنما التزمنا الذب عنه في حياته، ثم ذكر هذا على العموم في الكفار.
وقال إن واريناهم، فلدفع أذيتهم وجيفهم، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر حتى قُلب قتلى بدر من الكفار، في القليب. وهذا الذي جاء به في أهل الحرب، وكلامه عام في كل كافر.
وعلى الجملة في وجوب دفن الذمي وتكفينه احتمالٌ ظاهر، كما قدمناه.
ومما يتعلق بالفصل أنه لو مات ذمي، وله قريب مسلم، وآخر كافر، فقريبه الكافر أولى بغُسله؛ فإنه أولى بموالاته وميراثه، وإن كان أبعد من القريب المسلم. وهذا واضح لا إشكال فيه.
فرع:
1656- قال العراقيون: لو احترق مسلم ولو أمسسناه ماء، لتهرّأ، فلا نغسله والحالة هذه، بل نيممه، كما نُقيم التيمم مقام الغسل في حق المريض الحي. وهذا الذي ذكروه قياسُ طريقنا.
ولو كان عليه جروح وقروح، وكنا نقدر أنه يتسرع البلى إليه، ويدخل الماء تجاويفه لو غسل، ولكن كان لا يتهرأ، فإنه يغسّل، ولا نبالي بتسارع الفساد إليه، فإن مصيره إلى البلى، والله أعلم وأحكم.

.باب: عدد الكفن وكيف الحنوط:

1657- تكفينُ المسلم فرضٌ، كما أن غُسلَه والصلاةَ عليه فرضٌ، ونحن نذكر الأقلَّ، الذي يُسقط فرضَ التكفين، ثم نذكر بعده الأكمل والأفضل، إن شاء الله عز وجل.
فالثوب الواحد، السابغ، الساتر لجميع بدن الميت لابد منه، فلو مات، وخلّف ديوناً مستغرقةً للتركة، فمؤنة تجهيزه مقدّمة، فلو قال الغرماء: لا نرضى أن يزاد في كفنه على ثوب واحدٍ، ففي المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه يكتفى به؛ فإنه ساتر، وإبراء ذمته من الديون أولى من الزيادة.
والوجه الثاني- أنه يكفن في ثلاثة أثواب، كما أنه إذا أفلس في حياته، فيترك عليه ثيابٌ تجمّله، من قميص ودرّاعة، وعمامةٍ تليق به، فيراعى هذا المسلك في أكفانه بعد وفاته.
1658- ولو لم يخلِّف ديوناً، ولكن تنازع الورثةُ في أكفانه، وأرادوا الاقتصارَ على ثوب واحد، فالذي قطع به الأصحاب أنه لا يجوز لهم ذلك، بخلاف الغرماء.
وذكر صاحب التقريب أن من أئمتنا من ذكر وجهين في حقوق الورثة أيضاً، كالوجهين إذا نازع الغرماء. وهذا بعيد.
1659- ومن لم يخلف شيئاً كُفِّن من بيت المال، ثم الذي قطع به الأئمة أنه يكتفى والحالة هذه بثوبٍ واحد سابغ، ولم يصر أحد إلى جواز الاقتصار على ما يستر العورة من الرجل، بل لابد من ثوبٍ سابغٍ ساتر لجميع البدن.
وذكر صاحب التقريب وجهين في أنه هل يجب تكفينه من بيت المال في ثلاثة أثواب أم لا؟ وهذا حسنٌ، فإنا إذا كنا نذكر ذلك في حق الغرماء عند ضيق التركة، فليس يبعد ذلك في مال بيت المال، ثم قال صاحب التقريب: إن قلنا: لا يكفن من بيت المال إلاّ في ثوبٍ واحد، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يكفن في ثلاثة أثوابٍ من بيت المال، فلو خلّف ثوباً واحداً سابغاً، فهل يُكتفى به على هذا الوجه، أم يستكمل الثلاث من بيت المال؟ فعلى وجهين ذكرهما. أحدهما- وهو الة جاس على ذلك أنا نكمل؛ فإنا نرى الثلاث حتماً على هذا الوجه الذي عليه التفريع، فتكميلها من بيت المال كابتدائها.
والثاني: لا يُكمل؛ فإن المتوفَّى إذا خلف ثوباً، فليس هو من أصحاب الضرورات في ذلك، ولا يُتعدّى ما خلفه إلى جهة بيت المال.
1660- ثم استكمل صاحب التقريب بيانَ هذا الفصل على أحسن سياقَة.
فقال: أطلق الأئمة في الطرق أن أقل الكفن ثوبٌ واحد سابغ، ثم رددوا أجوبتهم في الثلاثة كما ذكرناه، وتحصيل القول في ذلك: أن الثوب الواحد السابغ تظهر فيه رعايةُ حق الله تعالى، ولا يجوز الاقتصار على ما يستر العورة، وإن كان يبدو من الميت شيء، لم يجز إلا إذا لم نجد سابغاً، فنضطر إلى الاكتفاء، وعليه يحمل ما روي «أن مصعب بنَ عمير، لما استشهد بأحد وكانت عليه نمرة إذا ستر بها رأسه، بدت قدماه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُدرج فيها ويوضع على قدميه شيء من الإذخر». وهذا محمول على أنه لم يوجد ما يستره ستراً سابغاً في ذلك الوقت، فأما تكفين الميت في ثلاثة أثواب في حق الغرماء، والورثة، وفي حق بيت المال، فهو مما يتعلق برعاية حق المتوفى في نفسه، كما ذكرناه في ثيابه التي تُبَقَّى عليه، إذا أفلس، وأحاطت به الديون.
ثم حقق هذا بأن قال: لو أوصى الميت بألا يكفن إلا في ثوب واحد، كَفَى الثوبُ الواحد السابغ؛ فإنه بوصيته رضي بإسقاط حقه.
ولو قال: رضيت بأن تقتصروا على ما يستر عورتي، فلا أثر لوصيته في ذلك، ويجب تكفينه في ثوب سابغ ساترٍ لجميع بدنه.
وهذا الذي ذكره في نهاية الحسن، واحتج بما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: "إذا مت، فكفنوني في ثوبي الخَلَق؛ فإن الحيَّ أولى بالجديد" فنفذت وصيته.
فهذا منتهى القول في أقل الأكفان في تفاصيل الأحوال
1661- فأما القول في الأكمل، فالرجل يكفن في ثلاثة أثواب، ولا ينبغي أن يزاد على هذا القدر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تغالوا في الأكفان؛ فإنها تسلب سلباً سريعاً».
1662- ثم الوجه أن نذكر ما تكفن المرأة فيه أولاً، ثم نذكر كفن الرجال.
قال الشيخ أبو علي: يجوز أن يزاد عدد أكفان المرأة على الثلاثة، عند أئمتنا، فإنها تُعنى بمزيّةٍ في الستر حيّةً وميتة، ثم يسوغ الاقتصار على الثلاثة، وإن زيد على الثلاثة، فينبغي أن تبلغ خمسة طلباً للإيتار، وليست الخمسةُ وإن أحببناها في حقها بمثابة الثلاثة في حق الرجل، حتى نقول تُجبَر الورثةُ عليه، كما تجبر على الثلاثة.
وهذا متفق عليه.
ثم إذا كانت تكفن في خمسة، فليكن أحدها إزاراً، والثاني خماراً، وهل يستحب أن تُقَمصَ؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنا لا نستحب ذلك، وهو الجديد.
والثاني: أنها تُقَمَّصُ؛ فإن ذلك أستر لها، ثم ذكر الشافعي: أنه تُشد عليها أكفانها بشداد، واختلف أئمتنا في أن هذا الشداد من جملة الخمسة، أو هو سادس. فإن قلنا: هو سادس فهو شدادٌ وراء الأكفان، ثُمّ يُحَلّ في القبر، وينحَّى، ويُخرَج، ولا يُترك عليها إلا خمسة. ومن قال هو من الخمسة تركه عليها؛ فإنه من الأكفان.
وفي بعض التصانيف وجهان في الشداد إذا كنا نتركه عليها:
أحدهما: وهو مذهب أبي إسحاق أنا نشد به وسطها، دون الرَّيْطة الثالثة.
والثاني: وهو اختيار ابن سُريج أنه يكون وراء اللفائف حتى يجمعها، ويعصبها، وإن كنا نزيل الشداد، فلا شك أنه يشدّ فوق اللفائف.
1663- ولابد الآن من نظم القول.
فإن قلنا: لا تُقمَّص، فليس الشداد من الخمسة، فإزار، وخمار، وثلاث لفائف. وإن قلنا: الشداد من الخمسة، ولا قميص، فإزار، وخمار، ولفافتان، وشداد. وإن قلنا: تُقمّص، والشداد من الخمسة، فإزار، وخمار، وقميص، ولفافة واحدة، وشداد. وإن لم نعدّ الشداد، فلفافتان، ولا مزيد على الخمسة؛ فإنه سرف، ومغالاة، وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
1664- وأما الرجل، فلم يختلف العلماء في أنه لا يستحب أن يلبَس قميصاً. ولو كفّن في أكثرَ من ثلاثة، فبلغ عدد أكفانه خمسة، جاز. ولم يكن منتهياً إلى حد السرف. نقله الصيدلاني عن نص الشافعي. والأوْلى الاقتصار على الثلاث. وروي عن عائشة أنها قالت: "كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض، سحُولية، ليس فيها قميص عمامة" ثم إن كان تبلغ أكفانه خمسة، فأحدها قميص، والثاني عمامة، وثلاث لفائف.
فانتظم مما ذكرناه استحبابُ الخمسة في المرأة، وجواز تبليغ أكفان الرجل خمسة. ولا ينبغي أن يقمّص الرجل إذا كان عدد الأكفان ثلاثة، وهل تقمص المرأة إذا كان عدد الأكفان خمسة؟ فيه القولان المذكوران.
وإن كانت تكفن في ثلاثة أثواب، فينبغي أن تكون رياطاً سابغةً، وإنما ذكر الشافعي القولين في استحباب القميص إذا كانت تكفن في خمسة أثواب، والسبب فيه أن الإزار والخمار-إذا كانت تكفن في خمسةٍ- أولى من القميص، وإذا كانت تكفن في ثلاثة، فإزار، وخمار، وقميص، وإذا لم تكن فوق الثياب لفافة، سابغة، فيكون ذلك خارجاً عن الوجه المختار.
ثم ما ذكرناه كلامٌ في الأوْلى، وإلا فلو ستر الميت بقميصٍ سابغٍ، فهو ستر تام، ويبقى الكلام في الثاني، والثالث.
ثم ذكر الشيخ أبو علي في الأثواب الثلاثة التي يكفن فيها الرجل خلافاً بين أصحابنا، فقال: منهم من قال: ينبغي أن تكون كلها سوابغ، ومنهم من قال: السابغة الريطةُ العليا البادية، فأما الريطتان الأخريان، فقاصرتان: الأولى- على حدِّ مئزر، يستر من السرة إلى الركبة، والثانية- من الصدر أو فويقه إلى نصف الساق، والثالثة وهي العليا، فتكون سابغة، يفضل منها شيء من جهة الرأس وشيء من جهة القدم، ويكون الفضل الأكثر من جهة الرأس.
1665- ثم ذكر الأئمة كيفية إدراج الميت في أكفانه، فنسوق ما ذكروه على وجهه: فينبغي أن تفرش الريطةُ العالية في موضعٍ نقي، وتذرّ عليها الحنوط، وتبسط عليه الثانية، ويذر عليها الحنوط، ثم تبسط الثالثة، التي تلي بدنَ الميت ويذرّ عليها شيء صالح من الحنوط، ثم يعدّ مقدار صالح من القطن الحليج ويُعمد إلى شيءٍ، فيلفّ على قدر موزه ويعمِد بها إليتيه، قال الشافعي ويبالغ في ذلك، فظن المزني أنه أراد أن يجاوز بها حدَّ الظاهر، وليس الأمر كذلك، بل أراد بالمبالغة أن يدس بين الإليتين، ويُفضي بها إلى الموضع، ويُبسطُ عليها مقدار عريض من القطن، ثم يشد وراء التُّبَّان ويستوثق منه في الشد حتى إن حرك أو زعزع، أمن خروج خارج منه، ثم يعمد إلى منافذه كالعين والأنف والفم والأذن، ويلصق بكل موضع قطنةً، عليها كافور، ليكون مدرأة للهوام.
1666- ثم أحب الثياب البيض، وقد تواترت الأخبار في الاستحثاث عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبُّ الثياب إلى الله البيض يلبسها أحياؤكم، ويكفن فيها موتاكم» وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثيابٍ بيض، ثم رأى الشافعي تجميرَ الأكفان بالعود، واختاره على المسك لما صح عنده من كراهية ابن عمر لاستعمال المسك في الكفن، فآثر الخروج عن خلافه.
1667- ثم يجوز تكفين المرأة في الحرير، كما كان يجوز لها لبسه في حياتها، ويمتنع ذلك في الرجال، كما حرم عليهم لبسه في الحياة، ولا يؤثر للنساء أيضاً التكفين في غير القطن والكتان؛ فإنه سرف، وقد ذكرنا أن السرف منهي عنه في الأكفان، وإن فرض نزاع في جنس الكفن، رددنا الأمر إلى ما يتعلق بمرتبة كل شخص، كما نفعل ذلك في حالة الحياة، مع اجتناب الرجال الحرير.
1668- ثم ذكر العراقيون وجهين في أنه هل يجب استعمال الحَنوط، أم هو مستحب؟ فمنهم من أجراه مجرى الثوب الثاني والثالث، كما قد تقدم شرح المذهب فيها. ومنهم من قال: لا يجب استعماله، وهو الذي يجب القطع به.
ثم إذا هيئت الأكفان، وضع الميت على وسطها مستلقياً، ثم يعمد إلى الضِّفَّة التي تلي اليمين، وتلوى على اليسار، ويجمع الفاضل من جهة الرأس، فيثنى على وجهه، ويجمع ما انفصل من القدم ويثنى على الساق.
فرع:
1669- إذا ماتت الزوجة، فهل يجب على الزوج مؤنة تكفينها وتجهيزها؟ فعلى وجهين مشهورين، أحدهما- لا يجب؛ فإن النكاح قد انتهى نهايته، فتزول المؤن بانتهائها.
والثاني: يجب؛ فإن النكاح وإن انتهى، فإنه يعقب تبعاتٍ كالميراث، والعدة، وجواز الغسل، وإذا مات ابن الرجل، أو أبوه فقيراً، وكان بحيث يستحق النفقةَ في حياته، على الذي بقي حياً، فيجب تكفينه، وتجهيزه وجهاً واحداً؛ فإن السبب الذي كان يستحق به النفقة في حياته القرابة المخصوصة، وهي باقية، وليست كالزوجيَّة التي انتهت بالموت.
فصل:
1670- كان الترتيب يقتضي أن نذكر بعد الغُسل والتكفين، الصلاةَ، وحملَ الجنازة، ثم الدفن، وقد نقل المزني فصولاً في الدفن الآن، فنجري على ترتيبه فيها، ونستعين بالله تعالى.
1671- فالدفن من فرائض الكفايات كالغُسل والتكفين والصلاة، ثم القبر يشق ويلحد، واللحد أولى عندنا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الشق لغيرنا واللحد لنا» ولما أراد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفنوه "أرسلوا وراء شاقٍّ ولاحدٍ، وكانوا يقولون: اللهم اختر لنبيك، فأقبل أبو طلحة اللاحد، فلحد قبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ثم يكون الميت في قبره على جنبه الأيمن في قبالة القبلة، وذلك حتم، فإن كان لحداً قُرّب إلى القبلة وألصق بمنتهى اللحد، وأضجع إضجاعاً لا ينكب على وجهه، واستوثق من وراء ظهره بلبنة حتى لا يستلقي، وحسن أن يترك تحت رأسه لبنة، ولو أفضى بوجهه إليها، أو إلى تراب قبره حتى يكون على صورة مستكين لربه، كان حسناً، ولا ينبغي أن يوضع على مخدة، أو مُضرَّبة، وتنضد اللبن على فتح اللحد، وتسد الفُرج بما يمنع انهيار التراب فيه.
ثم في الآثار: "أن يَحثي كلُّ من دنا حثيات من التراب"، ثم يهال التراب بالمساحي، ويرفع نعش القبر بمقدار شبر، ولا يبالغ في رفعه أكثر من هذا أو قريباً منه، ولا يُجصَّص، ولا يُطيَّن ولو صب عليه الحصباء كان حسناً، وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبر إبراهيم عليه السلام.
1672- ولو وضع واضع حجراً كبيراً عند رأس القبر، ليُعْلَمَ، ويقصَد للزيارة، فلا بأس به.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه أن يأتيه بحجر أشار إليه، ليضعه على رأس قبر عثمان بن مظعون فأعياه الحجر، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وحسر عن ذراعيه، واحتضن الحجر وشاله، ووضعه على رأس قبره، فقال: "حتى أعرف قبرَ أخي وأدفن إليه من مات من أهلي".
1673- ثم الأوْلى عند الشافعي تسطيح القبور، وهو أفضل من تسنيمها، وقد صح عنده أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبرَ صاحبيه مسطحة، وسطح رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرَ إبراهيم.
ومالك يرى التسنيم.
وقال ابن أبي هريرة من أصحابنا: إذا عمَّ في بعض البقاع من عادات الروافض التسطيح، فعند ذلك التسنيم عندنا أفضل، مخالفة لعاداتهم.
1674- وحكى العراقيون عن ابن أبي هريرة في مساق الكلام أنه إذا صار الجهر بالتسمية شعاراً لهم، رأيت الإسرار بها مخالفةً لهم. وهذا بعيد جداً، ولا ينبغي أن يرتكب الإنسان تركَ ما صح وثبت، لهذا المعنى، ثم إن احتمل هذا في هيئة قبر، فطرده في سُنَّة من سنن الصلاة بعيد لا أصل له.
قال شيخي أبو محمد: حكى بعض الأصحاب أن الشافعي قال: إن ظهر في ناحية كون القنوت في الصلاة شعاراً ظاهراً لهم تركتُ القنوتَ مخالفةً لهم. ثم قال: وهذا النقل مزيف، والشافعي أعلى من أن يدعو إلى ترك بعضٍ من أبعاض الصلاة بسبب إقامة المبتدعة له، والقول بذلك يرقى إلى التزام أمور لا سبيل إلى التزامها. ومهما اطردت عصابة أهل الحق على السُّنَن، لم يَبِن اختصاص آخرين بها، حتى ينتهي الأمر إلى عدها من شعارهم.
وقيل: الأصل في ذلك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم إذا بدت جنازة، فأخبر أن اليهود تفعل ذلك، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم القيامَ ولم يقم"، وهذا قريب؛ فإنه لم يكن القيام أمراً مقصوداً، ولا سنة في عبادة.
وأجرى بعض الأئمة التختم في اليسار هذا المجرى، واعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في اليمين، ولكن اشتهر هذا بأهل البدع، وصار شعارهم، فرأينا مخالفتهم، والأمر في هذا قريب أيضاً، ولكن أخبرني من أثق به من أئمة الحديث أن الذي ظهر وصح من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم التختُّمُ في اليسار.
1675- ومما ذكره الأئمة أنه لا ينبغي أن يدخل اثنان في قبرٍ إلا عند موَتان والعياذ بالله، فإذا كثر الموتى أو ضاق المكان، فلا بأس بذلك، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «احفروا وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في قبر»، ثم ينبغي أن يقدم الأفضل إلى جدار اللحد مما يلي القبلة، ثم يليه مَنْ يليه في الفضل، وإذا جمعنا بين أم وبنت، قدمت الأم على البنت. قال الصيدلاني: الأم والابن إذا جمعا عند حاجة قدم الإبن لمكان الذكورة، ولا وجه في هيئة الوضع غيره. ومنع الأئمة الجمع بين النسوة والرجال ما بقي في الامتناع منه اختيار، فإن ظهرت الحاجة، فإذ ذاك.
ثم قال الشافعي: ينبغي أن يجعل بين الرجل والمرأة حاجزٌ من تراب.
1676- والمقدار الذي يلحق بما يجب في الباب الدفن في حفرة يعسرُ على السباع في غالب الأمر نبشها، والتوصل إلى الميت فيها، وإذا كان كذلك، فلا يقتصر على أدنى احتفار. ومما يُرعَى أن تكتم روائحُ الميت، فهذان المعنيان يجب رعايتهما.
وقد قيل: الأوْلى أن يكون عمق القبر بمقدار بسطة، وهي قامة رجل وسط.
1677- ثم يُكره للرجل أن يجلس على قبر، أو يتخذه متكأ، وكذلك يكره أن يتوطأ الماشي في مشيه شفير قبر، ولا يجوز البناء في المقابر على قبرٍ، فإن موضع البناء يشغل مواقع القبور، التي تقدر في تلك الأماكن، فإن لم يكن في مقبرة مشتركة، فلا بأس بالبناء.
1678- ثم إذا قُبر المسلم في موضع، فلا ينبش موضعه ومضجعه ما بقي منه أثر، وإذا علم أن الأرض أكلته ومحقت أثره بالكلية، فيقبر في ذلك الموضع غيره، ولا يجوز والحالة هذه أن يمنع منه مع مسيس الحاجة، والأولى في حكم نزيلٍ في منزلٍ من موضع مسبَّل على السابلة، فإن غيره من النازلين يحلّون حيث حل.
1679- ثم ذكر الأئمة صوراً فيها خلاف ووفاق في نبش القبور جوازاً ومنعاً، فالمشهور أنه إذا كان تُرك غُسل الميت، ودفن حيث كان يجب غُسله، يُنبش ويغسَّل ويعاد، وذلك واجب إذا لم يتخلل من الزمان، ما يتخيل في مثله تغير الميت، وحكى صاحب التقريب ذلك، وحكى قولاً آخر أنه يكره نبشه لأجل تدارك الغُسل.
وهذا غير مرضي، والمذهب وجوب النبش في الحالة التي ذكرناها، لإقامة الغُسل، ثم اللفظ الذي نقله في القول الغريب مقتضاه جواز النبش، مع الكراهية، وليس معناه تحريم النبش، فهذا حكم النبش لأجل الغسل، والأصل فيه وجوب تدارك الغسل.
1680- ولو دفن، ولم يصلَّ عليه، فلا يجوز النبش لأجل الصلاة، بل يصلى على القبر؛ فإن ذلك سائغ كما سيأتي ذكره.
1681- ولو لم يكفن ووُوري ففي وجوب النبش ليكفن وجهان مشهوران:
أحدهما: المنع من ذلك؛ فإن القبر قد واراه وستره، فليقع الاكتفاء به إذا وقع؛ فإن النبش هتكه، ولا شك أن النبش حرام لغرض في نقلٍ يراه الناس.
ومما يجب التنبيه له أنا وإن كنا نجوّز الصلاة على القبر، ونقول إذا قُبر من غير صلاة، فلا ينبش ليصلَّى عليه، ولكن يحرم أن يُفعل ذلك قصداً بل يجب أن يصلى عليه قبل الدفن-وإن كانت الصلاة لا تمتنع بالدفن- فإن في مخالفة ذلك تركَ الشعار العظيم، الظاهر في فرض الكفاية، وفيه إهانةُ الميت فحرم.
1682- ولو قُبر الميت في أرضٍ مغصوبة، فطلب مالكها إخراجَه، تعيَّن إخراجُه.
ولو كفن في ثياب مغصوبة، ودفن، فقد اختلف أئمتنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه يتعيّن النبشُ وردّ الثياب إلى مالكها، كما يجب ذلك بسبب تَخْلِية الأرض المغصوبة وردها، وقال قائلون: لا نفعل ذلك، ولا نجوزه، ونغرَم لمالك الثياب قيمتَها.
ثم يتطرق إلى الأرض المغصوبة والكفن المغصوب نوعان من الكلام: أحدها: أنه لو دفن في أرضٍ مغصوبة، وتغير، وكان إخراجه هتكَ حرمةٍ، فالذي أشار إليه الأئمة أنه يخرج مهما طلب المالك، واحتُمل ذلك؛ فإن حرمة الحي أولى بالمراعاة.
ويجوز أن يظن ظان تَرْكَه؛ فإنا قد نقول: لو غصب غاصب خيطاً، وخاط به جرحاً، فلا يسلّ الخيط، إذا كان يؤدّي إلى إضرارٍ، وفي القواعد-على ما سنصف- تنزيلُ حرمة الميت منزلةَ حرمة الحي، فيما هذا سبيله، سيّما والأمر في ذلك قريب؛ فإنه سيبلى في زمان ينمحق أثره، والدليل عليه أن مبنى العاريّة على جواز الرجوع فيها، ثم من أعار بقعةً حتى دُفن فيها ميت، ثم أراد الرجوع في العارية، لم يكن ذلك له، وكان هذا من العواري اللازمة، فهكذا في الدفن في الأرض المغصوبة.
وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً في الكفن المغصوب، فقالوا: إن تغير الميت، وكان يؤدي النبش إلى هتك حرمته، فلا يردُّ.
وكان شيخي لا يرى هذا التفصيل، ويقول: لو بلع لؤلؤةً، ومات، فقد يشق بطنه لردها، ولا مزيد على هذا في الهتك، ولكنا نحتمله لرد الحق إلى مستحقه. والله أعلم.
وأما إذا كفن في ثياب مغصوبة، فمن قال: لا نجوِّز النبش، ونغرَم له القيمة، فلو عسرت القيمة في الحال، ففي ذلك احتمال ظاهر في جواز النبش، ويتصل الكلام فيه بأنا إذا كنا لا نجد ثياباً غيرها، ولو رددناها، لعرى الميت، فكيف الكلام في ذلك؟ وسأذكر في هذا بعد ذلك بياناً شافياً، إن شاء الله تعالى.
1683- ومما ذكره الأئمة متصلاً بهذه الفصول المنتشرة أنه ورد في الحديث: «من صلى على ميت وانصرف، فله قيراطٌ من الأجر، ومن اتبع الجنازة، وشهد المرقد، حتى دفن الميت، فله قيراطان». فإن صبر على القبر حتى رُدّ التراب كله، فقد حاز القيراط الثاني من الأجر، وإن نُضد اللبن، ولم يُهل التراب بعدُ، أو لم يستكمل، فقد تردد فيه بعض أئمتنا، والوجه أَن يقال: إذا ووري حصلت الحيازة.